قناة فاشن والثورات الشعبية ..!!
باسم ابو سمية
ليت انه لم يكن في الدنيا سوى قناة الــ " فاشن تي في " ، لما تمزقنا ألما مثلما تمزقت جثث الابرياء في الشوارع العربية اثناء قمع الانتفاضات الشعبية ، ولنمنا ملء جفوننا ولم تداهمنا الكوابيس المخيفة ، ولشدة اعجابي بالقناة فاني احسدها على هدوء اعصابها ورباطة جأشها وعدم التفاتها الى ما يدور في العالم العربي واستمرارها في عرض برامجها عن الازياء بعارضات جميلات التي لو كان الحكام راوا مثلهن ايام الشباب لما اصبحوا حكاما وما وضعوا انفسهم في اقفاص الاتهام.
ما تعرضه قناة الفاشن من عروض مثيرة لصبايا من اجمل ما خلق الله لا هن كاسيات تماما ولا عاريات تماما ، يجري في النصف الاخر من الدنيا بعيدا عن تناثر الاشلاء وجثث القتلى والصراخ والعويل والقصف ، ولهذا تغرد القناة في سرب اخر بعيدا عن اسراب الحمام العربية التي يصطادها القناصون الواحدة تلوالاخرى ، وأسأل لو ان ان قناة فضائية عربية تتمتع باعلى نسبة مشاهدين في العالمين العربي والغربي لما تورعت عن ان تصبح ناطقا بلسان الحكومة وتركت الشعوب تواجه مصيرها وحدها .
منذ بدء ثورتي تونس ومصر لم نذق طعم النوم لا في الليل ولا في النهار ، ولم يسمح لنا احساسنا القومي بمشاهدة برامج اخرى غير البرامج الاخبارية ، فلا افلام ولا مسلسلات ولا برامج ترفيهية ولا كوميدية اذا استثنينا خطب الزعيم الليبي التي اصبحت اغنيات مشهورة ، وقيل فيها وعنها الكثير من الطرف والنوادر واللطائف والظرائف .
منذ ذلك الحين ونحن نجري من الصباح الباكر حتى اخر الليل وراء الفضائيات اينما حل مراسلوها ، من الجزيرة التي حققت نصرا كبيرا على اكثر من نظام وساهمت في اسقاط حكام ، وكيف لا ، فالاعلام بانواعه كان على مر التاريخ يقود الثورات ويتحكم في مصائرها ، وفي احيان كثيرة يرسم نتائجها ، فما بالك اذا ما اصبح هذا الاعلام اليوم مرئيا يضعنا في صورة ما يحدث اولا بأول في كل انحاء الدنيا في لحظات ، وهذا التطور التكنولوجي بات يفرض على الفضائيات توخي الدقة والموضوعية والحيادية وعدم التعامل مع الشائعات وعدم اتخاذ مواقف من طرف على حساب الطرف الاخر .
أنا وكثير من ابناء جيلي والاجيال التي سبقت نذكر كيف ان الاعلام الفلسطيني من جرائد ومجلات ساهم في اواسط الثلاثينيات من القرن الماضي في شحذ الهمم وشحن المعنويات وقيادة المعارك والاضرابات في فلسطين التي كانت في حينه موئلا للكثير من الصحف والمجلات الوطنية والمنابر الاعلامية القومية ، ولولا اخطاء الانظمة العربية انذاك لما استطاعت اسرائيل احتلال فلسطين وطرد مئات الالاف من الاهالي الى الدول المجاورة والامريكيتين واوروبا ليصبحوا لاجئين ، واظن ان قناتي العربية والسي ان ان الاميركية وغيرهما من القنوات الخاصة نقلت مجريات الاحداث في المنطقة العربية بشكل مواز للجزيرة واحيانا اكثر ، ولكن بشكل اخر .
ولانني نشأت في اجواء صحفية قبل اربع سنوات من هزيمة حزيران سنة 1967 ، فقد كنت واحدا من اربعة الى جانب المحررالمسؤول لجريدة الجهاد وهو يستمع من مسؤول كبير عن تقرير لصورة الوضع وبعض التفاصيل لاسرار الهزيمة ، بعد ذلك عرفت كيف تصاغ البيانات الرسمية وبحكم عملي في الجريدة كراصد اخبار سمعت المعلق المصري الشهير احمد سعيد وهو يطيح باسرائيل يمينا وشمالا ويوقع الطائرات بالعشرات في سياق الرواية الرسمية كما يحب المهزومون ان يروها ووهي رواية بطبيعة الحال مغايرة تماما لما يدور على ارض المعارك.
لقد شاهدت انا وزملائي الثلاثة بالعين المجردة مدينة القدس وهي تسقط في يد اسرائيل ورأينا الجنود الاسرائيليين وجها لوجه في الشارع المقابل للمدرسة الابراهيمية بينما كان احمد سعيد يواصل وصف بطولات نسور الجو العرب وهم يسقطون الطائرات الاسرائيلية كالذباب، ويمني سمك تل ابيب بوجبة لذيذة من الاسرائيليين .
كانت تلك التجارب منارة تعليم لي ولزملائي علمتنا الا نثق بالرواية الرسمية حتى لو تضمن البيان قسما غليظا بالله والوطن ، واصبحنا نضع علامات استفهام كثيرة حول بعض المواقف في كل رواية ، وفيما بعد عرفت كيف تصنع البيانات الرسمية ، بل وشاركت في صياغتها وفي تصديقها ايضا بحكم عملي في الاعلام الرسمي لسنوات طويلة .
وفي نهاية الامر ، في خضم الاحداث الدموية التي تشهدها العواصم العربية لم يطاوعني قلبي ولا مشاعري ولم يسمح لي تعاطفي مع الثورات ان اشاهد تلفزيونا رسميا لانني على يقين بانه لا يحمل سوى التضليل والكذب والاتهامات على غرار نموذج ان المنتفضين حفنة مدسوسين ويعملون باجندة خارجية ، فروايات مثل تلك هي التي تحسم النتائج فقد تبدلت الاحوال وتطورت تقنيات الاتصال واصبح العالم كله اصغر من قريتنا ويمكن لما يحدث في بيتنا ان يسمع به اهل اليابان قبل ان اسمع انا به ، فلم يعد هناك مجال لقلب الحقائق ، وتضليل البشر ، واستخدام البطش في الظلام ، ثم تدفن الرؤوس في الرمال في وضح النهار ..!!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق