مقلوبة اميركية ..!!
باسم ابو سمية
حتى قبل شهرين من اليوم كانت لبنان تبدو من اكثر الاماكن في الشرق الاوسط مرشحة للانفجار، فسيطر احساس بالذعر على الناس وشرع كثير من مثقفين وسياسين معارضين ومؤيدين في البحث عن اماكن لجوء خارج لبنان ، وبدأ الدبلوماسيون العرب والاجانب وموظفو الهيئات والمنظمات الدولية في تجهيز حقائبهم استعدادا للمغادرة او الاخلاء في حال اندلاع الاقتتال الذي سينتهي وفقا لتحليلات المطلعين في حينه الى احكام حزب الله ومؤيديه سيطرتهم على البلاد .
واليوم يبدو لبنان اكثر مناطق العالم هدوءا واستقرارا من اي بلد عربي اخر مثلما رام الله ، فليس هناك ما يعكرصفو اهله الذين تعودوا على رغد العيش والرفاهية والاختيال رغم الفقر والبطالة التي يمكن مشاهدة اثارها في البلد ، ولا، الناس هنا تعودوا على الفوضى وغياب القانون فان الفراغ السياسي الذي تركه اسقاط الحكومة السابقة وفشل تشكيل حكومة جديدة لم يلق باثاره على حياة اللبنانيين الى ان جاءت الانتفاضات الشعبية لتجتاح دول عربية كثيرة وتجعل من لبنان واحة امان واستقرار ، ولكن بلا حكومة تدير شؤون الناس ، حتى ان صدور القرار الاتهامي لن يكون قادرا على اشعال فتيل الفتنة السياسية او الاقتتال الداخلي ، فالسياسيون يخشون بعضهم البعض ووسائل الاعلام تذكي الخلافات السياسية وتثير النعرات الطائفية وتعبيء الناس ضد بعضهم البعض ، ومثل هذه التعبئة هي التي يمكن ان تفجر طاقة الناس المخزنة في اية لحظة .
لقد زرعت صور الجماهير العربية وهي تخلع ثوب الاستكانة وتلبس ثوب تغيير الانظمة بعد سنوات من الاستسلام ، الرعب في قلوب الحكام والمحيطين بهم في كل العواصم العربية وغير العربية ، واصبح التعامل مع الجموع الغاضبة امرا يتطلب دبلوماسية ناعمة وخاصة ولغة اخرى غير لغة التهديد والوعيد وتقديم تنازلات وتطبيق ديمقراطية لم يتعود الحكام العرب عليها من قبل، واصبحت المعادلة لدى المستضعفين تقوم على قاعدة اما التحررمن العبودية او الاستشهاد ، والويل لمن ييحاول اعتراض طريق الجماهير .
تلك المشاهد والصور التي تتناقلها محطات التلفزة ليلا ونهارا ، لم تمنعنا من اتخاذ القرار العائلي ,وفاء وانا باعداد طبخة " مقلوبة " فلسطينية تقليدية في قلب بيروت على شرف صديقة اميركية قديمة لوفاء من ايام القدس ، وبلادها اصبحت سببا مباشرا لاندلاع الثورات الجماهيرية ضد الانظمة العربية ، فعقدنا العزم واعددنا العدة لاقامة الوليمة وامضينا يوما في التسوق وشراء مكونات الطبخة من ارز ودجاج وباذنجان ولوز وصنوبر وحاجيات اخرى من لزوم ما يلزم .
قبل الوليمة بيوم واحد كان الطقس على غير عادة منذ فترة طويلة ربيعيا مشمسا ودافئا ، وقررت التجول ي ساحة النجمة بوسط بيروت ، وقادتني قدماي الى مقهى روتانا على بعد امتار قليلة من المطعم الذي قيل ان رئيس الحكومة الاسبق رفيق الحريرى قد تناول فيه غداءه قبل ان يقتل بتفجير سيارته بعد ذلك بوقت قصير ، وجلست اتفحص كل من في المطعم واحدا واحدا ، فلم ار احدا اعرفه ، وفجأة ظهر الكاتب حازم صاغية يعبر الساحة من امامي فابتسم والقى التحية وقال انه يحسدني على جلستي الحلوة ، ولو انه ليس مرتبطا بموعد لكان قد انضم الي ، ورفع يده مودعا وواصل السير .
كانت الشمس الدافئة تخترق عظامي وتتغلغل في اركاني وتبعث في متعة لم احس بها منذ وقت طويل ، وعادت بي الذكريات لثلاثين عاما مرت ، وفي تلك الساحة شاهدت كل من عرفته في تلك الفترة جاؤوا من رام الله و القدس ومن عواصم اوروبية وعربية ، اشخاص كثيرون زملاء وزميلات ومعارف واقارب واصدقاء الى ساحة النجمة ومروا من امامي ذهابا وايابا عدة مرات ، ولم يتنبه احدهم الى وجودي ، كنت اتابع المارة من رجال ونساء من وراء النظارات الشمسية وابتسم ، حتى ان اشخاصا لم اكن احترمهم كانوا يتبخترون بكل وقاحة في الساحة ثم يتوارون بين الناس ، وتوقف المشهد عندما دق جرس هاتفي النقال ، وبعدها اكملت ارتشاف ما تبقى من الكافيه لاتيه ، ولم اعد ارى احدا ، وفي تلك الاثناء كان سرب من الحمام يطير بانسياب من بناية لاخرى لعدة مرات ثم يحلق فوق الساحة في حركات بهلوانية يعلو ويهبط مثل سرب طائرات في عرض جوي ، كان المشهد جميلا وممتعا .
في اليوم التالي كانت مقلوبتنا اللذيذة تطغى على الاحداث الساخنة في العالم العربي وخصوصا في ليبيا حيث يزداد احكام الخناق على العقيد ، وكانت المقلوبة وليس الثورة موضوعا لحديث شيق عن ذكريات كانت غائبة منذ عقود طويلة حين كنت اعمل في اذاعة مونتي كارلو وكانت الدبلوماسية حينها ملحقا ثقافيا وحكت لنا مواقف مضحكة حصلت بين الرئيس الراحل ابوعمار في غزة وبين دبلوماسيين غربيين ، وضحكنا كثيرا بصوت عال ، وفجأة قطع ضحكاتنا خطاب القذافي من فوق الاسوار العالية وهو يصرخ كالمجانين زنقة زنقة دار دار ثورة ثورة ، فضحكنا مرة اخرى وواصلنا الفتك بالمقلوبة والتمرغ في ارزها ودجاجها وباذنجانها ، وما تبقى من الطبخة فقد وزعناه على الدبلوماسية الصديقة وعلى جيراننا واصدقائنا اللبنانيين ..!!